Bouteflika_no_you_cant

الحراك، الجيش، والخارجون من السلطة: خريطة سياسية جديدة

بقلم لينا كنوش

تتواصل التظاهرات في الجزائر وتطالب فئة وازنة من الشعب برحيل الرئيس المؤقت عبد القادر بن صالح الذي بات يرأس البلاد لمرحلة انتقالية. في ظل هذا السياق المأزوم، تدعو قوى سياسية إلى مواجهة مع المؤسسة العسكرية، بما قد يعرّض البلاد إلى خطر الفوضى.

في هذه المقابلة، يحلّل أستاذ الفلسفة والمساعد السابق خلال التسعينيات لأحمد محساس (أحد مُطلقي الثورة في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر 1954) محند بيري، سيناريو تصاعد التوترات ويعود كذلك إلى التغيّرات الأخيرة التي هزّت المشهد الجزائري.

كيف تحلل الملاحقات القضائية التي استهدفت البعض من كبار رجال الأعمال المعروفين بقربهم من الدائرة المحيطة بالرئيس بوتفليقة (علي حداد وعائلة كونيناف وعائلة طحكوت) ورضا القيادة العليا للجيش عن هذه الحملة التي نفى وقوفه ورائها؟ (لم تستهدف هذه الملاحقات رجال الأعمال المقربين من رئيس الأركان ولا أولئك المتواطئين مع معارضة ديموقراطية مرتبطة بالمصالح الفرنسية وأبرزهم يسعد ربراب).

يربط سؤالك بشكل مباشر عالم الأعمال (وبشكل أعم الاقتصاد) بعالم القرار السياسي. وسأسمح لنفسي هنا بالتذكير بإيجاز شديد بكون هذا الرابط ليس مقتصرا في جوهره على الجزائر، اذ إن “الاقتصاد السياسي هو القاعدة في كل مكان على الرغم مما يقوله المدافعون عن النظام المهيمن” كما كان يقول الراحل سمير أمين.

غير ان الجزائر التي تتأتى كل عائداتها تقريبا من صادرات المحروقات، وهذه حقيقة لا تقبل الجدل، تظهر على المستوى الدولي كبلد ريعي بامتياز مثلها مثل فنزويلا وإيران وممالك النفط الخليجية. فضلا عن الطابع الريعي لاقتصاد الجزائر وارتباطه بالخارج يجب ان نضيف طبيعة سلطتها السياسية التي سيكون من الخطأ، حسب رأينا، التقليل من شأن إنجازاتها الوطنية والشعبية وفي نفس الوقت الانحرافات الخطيرة الملازمة لبيروقراطيتها وكذلك الضغوط الدولية المتعددة، وذات النوايا الخبيثة في اغلب الأحيان، التي تواجهها.

سيكون من الخطأ أيضا تجاهل خصائص النظام الجزائري، التي ذكرنا بها فيما سبق، عندما نتناول مسائل القطاع الخاص وعالم الأعمال أو الفساد. وبشكل أوضح يجب التعامل بحذر مع أسماء “كبار رجال الأعمال” المتداولة إعلاميا بشكل كبير خلال الثلاثين عاما الماضية، فأغلبهم، بدرجات مختلفة، مجرد واجهات وفي كل الحالات أشجار تخفي غابة “الدولة العميقة” أو “الدولة الموازية” الكبيرة التي يفضحها ويندد بها الجزائريون أكثر فأكثر.

يرتبط نظام الفساد، يجب أن نسمي الأشياء باسمها، بشكل لصيق بالطبيعة الريعية لاقتصادنا القائم على تصدير سلعة واحدة. يبرز الفساد في التجارة الخارجية، عند التصدير (بترول وغاز) والاستيراد (أسلحة، أدوية، سلع وتجهيزات ضرورية لعملية الانتاج، الخ). أما على المستوى الداخلي فإن السيطرة على الصفقات العمومية، في كل القطاعات تقريبا، هي مجال التنافس بين لوبيات الأوليغارشيا.

أعود هنا للإجابة عن سؤالك حول الملاحقات القضائية التي تستهدف رجال الأعمال الذين عرف عنهم قربهم من الدائرة المحيطة بالرئيس، وموافقة القيادة العليا للجيش الوطني عليها رغم انها انكرت ذلك حسب كلامك.

يجب في البداية تصويب وتوضيح الأمور، فإلى حد الآن ليست هناك إلا تحقيقات أولية يقوم بها قسم البحث والتقصي التابع لجهاز الدرك الوطني بأمر من القضاء (يجب الإشارة إلى ذلك). الدرك الوطني هو فرع من فروع الجيش ولقد تحركت أجهزته، أعيد التذكير بذلك، بأمر من القضاء. وتجدر الإشارة هنا إلى ان التحقيقات تشمل إلى حد الآن أكثر من 540 شخصية صدرت في حقها جميعا أوامر بمنع مغادرة التراب الوطني. ومن المؤكد أن هذه القائمة ستشمل أسماء أخرى في قادم الأيام. حتى إيقاف علي حداد رجل الأعمال المقرب من سعيد بوتفليقة الشقيق الأصغر للرئيس، واستنطاقه في انتظار محاكمته أتى على خلفية خرقه لتحجير السفر. باختصار لم يتم القبض على أي رجل أعمال آخر، على الأقل حسب علمنا. لدي توضيح هنا: تتبنى القيادة العليا للجيش هذه القرارات علنا بما انها أوضحت ان كل القطاعات معنية بما فيها قطاع الطاقة الأساسي. وهذا هو جوهر الخطاب الأخير لقايد صالح، رئيس الأركان ونائب وزير الدفاع، والذي ألقاه في قاعدة الناحية العسكرية الثانية غرب البلاد. إذن لماذا صدرت هذه الأوامر بتحجير مغادرة التراب الوطني؟

هناك حسب رأينا سبيين على الأقل. الأول ذو طابع أمني وهو الأكثر أهمية، بمعنى ان هناك على الأقل جزء من هذه الشخصيات بحوزته ممتلكات أو معلومات من الضروري وضعها تحت المراقبة المشددة للدولة حتى يتم الحد (عندما يتعذر المنع) من تهريب رؤوس الأموال وتسريب معلومات أخرى سرية للغاية. أما السبب الثاني فذو طابع سياسي وهو “مزدوج”: إرضاء المطالب الشعبية طبعا وكذلك الضغط على الدائرة المحيطة بالرئيس. حتى وان تم التقيد بشكل كامل بالطابع القانوني للإجراءات، إلى حد الآن على الأقل، فمن البديهي ان أوامر منع السفر هذه ما كانت لتصدر بدون موافقة القيادة العليا للجيش. ورغم حرصه على الالتزام بالقوانين، خاصة مع القيادة العليا الحالية، فإن الجيش الجزائري يظل العمود الفقري للدولة، ومن هذا المنطلق لا يمكن تجاوزه عند اتخاذ أي قرار سياسي بالغ الأهمية. وتحرك القيادة العليا أتى كرد فعل على محاولات تجاوز وحتى اضعاف هذا الجهاز الأساسي في الدولة الجزائرية. ولقد ردت الفعل، بعد فترة من التردد، بدعم الحراك الشعبي. ويجدر القول هنا بأن المطالب الشعبية تلتقي بشكل كبير بمطالب الجيش الذي يجب أن نذكر بأنه شعبي في اصوله وتركيبته، حتى على مستوى جزء كبير من قيادته.

الإثراء السريع، غير المستحق والظاهر بشكل فاحش في اغلب الأحيان، لعدد كبير من رجال الأعمال يثير أيضا غضب الأغلبية العظمى من جنود وضباط جيش يدافع وسط ظروف صعبة جدا عن مجال ترابي وعر في أغلب الأحيان وخاصة شاسع جدا. نجد هنا تحالفا استراتيجيا استطاع الشعب الجزائري التعبير عنه بشعاره “الجيش والشعب خاوة خاوة” (الجيش والشعب اخوة) الذي استدعى زمن الثورة المسلحة المجيد عندما كان الشعب الجزائري في انسجام مع جيش التحرير الوطني.

في نفس السياق الذي وصفته، ما رأيك فيما تم كشفه من معلومات مدهشة حول تلاقي المصالح بين الجنرال توفيق، رئيس المخابرات السابق، وسعيد بوتفليقة الشقيق الأصغر لرئيس الجمهورية؟

بعد هذا الالتقاء الاستراتيجي بين الشعب والجيش والذي توطد بدعم صريح ومتكرر من القيادة العليا للحراك الشعبي، بدأت محاولات بناء تحالفات، أو تقاطع مصالح كما عبرت عنه أنت بدقة كبيرة، بين سعيد بوتفليقة والمدير السابق لأجهزة الاستخبارات (دائرة الاستعلام والأمن سابقا).

لقد قلت ” الكشف عن تلاقي مصالح”.. في واقع الأمر، كشف هذا الحراك الشعبي والدعم الذي حظي به بسرعة كبيرة من طرف القيادة العليا تلاقي مصالح موجود من قبل ومستقر نوعا ما، حتى وان تعرض لهزات تتراوح درجة حدتها نظرا للنماذج الاقتصادية المختلفة او الاصطفافات الدولية المتناقضة أحيانا وحتى المتصارعة.

في كل الأحوال، تقارب سعيد بوتفليقة والجنرال توفيق هو تعبير عن ارتباطهما بنفس عالم القيم الغربي عموما، في اسسه الثقافية بشكل خاص والتي تعبر عنها (إلى حد ما طبعا) البروفيلات الأيديولوجية لعلي حداد بالنسبة لسعيد بوتفليقة، وليسعد ربراب فيما يتعلق بالجنرال توفيق حتى وان كان هناك من يرى ان هذا الأخير اقل ميلا لفرنسا مما يقال عنه أحيانا.

كيف يمكن تفسير الشعبية المتنامية، صلب الحراك، لكل من مصطفى بوشاشي وكريم طابو؟

ربما ينبغي أن نتحدث قليلا عن المسيرة السياسية لهاتين الشخصيتين التي ظهرتا مؤخرا على الساحة الوطنية. فكل من بوشاشي وطابو بدأ مشواره السياسي في “جبهة القوى الاشتراكية” الحزب الذي تأسس سنة 1963 وترأسه لمدة طويلة الراحل حسين آيت أحمد. ويهيمن أبناء منطقة القبائل والفرنكوفونيون على هذا الحزب العضو في “الأممية الاشتراكية” منذ أكثر من 30 عاما. بوشاشي وطابو كانا نائبين في البرلمان وتقلدا مناصب هامة في صلب الحزب. أخيرا، من المفيد التذكير بأن بوشاشي نجح بعد 2005 (رفقة أصدقائه في “جبهة القوى الاشتراكية”) في الظفر بقيادة الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان “بفضل الدعم، مثلما يتهمه بذلك الرئيس السابق للرابطة حسين زهوان وهو مجاهد قديم ومناضل معروف بنزاهته، الذي حظي به من قبل إدارة “الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان” والتي لا يخفى على أحد تعاطفها مع الصهيونية”.

كيف نفسر إذن تنامي شعبية هاتين الشخصيتين السياسيتين في حين انهما لا تمثلان إلا أقلية من الشعب الجزائري؟ فضلا عن العوامل السياسية والأيديولوجية السالفة يمكننا اضافة تأثير وسائل الإعلام التي يتحكم فيها اللوبي الفرنكوفوني في الجزائر ذاتها، ومن بينها تلك المملوكة ليسعد ربراب، وكذلك القناة التلفزية اللندنية “المغاربية” المملوكة، على الأقل رسميا، لإبن القيادي الأول في “الجبهة الإسلامية للإنقاذ” سابقا عباس مدني.

وبالإضافة إلى تأثير وسائل الإعلام هذه والتحالفات السياسية الداعمة لها، ومن بينها تلك التي صنعتها ما يسمى بتنسيقية “أرضية من أجل التغيير” والتي ضمت هاتين الشخصيتين مع ممثلين عن حزب آخر ذو هيمنة قبائلية (التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية) وحركة “رشاد” التي يرأسها محمد العربي زيتوت وبعض القياديين السابقين في “الجبهة الإسلامية للإنقاذ”، يجب ان نتحدث عن دور الدعم المالي، الذي بالكاد يتم التستر عليه، المقدم من قبل الملياردير يسعد ربراب وهو من أصول قبائلية أيضا. وكما يمكن ان نلاحظ ذلك بسهولة فإن هذا التجمع السياسي يستعمل بشكل مفرط ومجحف الورقة المناطقية/الاثنية، كما كان عليه الأمر زمن الحقبة الاستعمارية، عبر تحريك (بدون تكاليف تذكر وبلا أي خجل) مئات آلاف الشباب، كوسيلة للضغط والابتزاز، وهم في اغلب الأحيان مهمشون اجتماعيا بلا أفاق مستقبلبة، وضحايا لتحشيد أيديولوجي شديد ومستمر منذ عقود. أخيرا، يمكن ان نضيف إلى جملة هذه العوامل العمل الفعال جدا الذي يقوم به بعض بقايا الجهاز الذي كان يقوده الجنرال توفيق قبل 2015 والذي لا يمكن الاستهانة ابدا بمدى تأثيره حتى على المستوى الدولي. الهدف المعلن لهذا التحالف هو السيطرة على القيادة العليا للجيش، وهو يتقاطع مع المطامح الفرنسية..

اختارت السلطات العليا بالبلاد تطبيق الفصل 102 من الدستور، وهذا اختيار يعارضه جزء كبير من الجزائريين. هل من المحتمل أن نشهد تزايدا في الاحتقان خلال الأيام المقبلة كما يتوقع ذلك بعض الملاحظين الذين يدعمون تحليلاتهم بالقرار الذي اتخذ مؤخرا بمنع مظاهرات الطلبة في العاصمة الجزائرية؟

سيكون عبد القادر بن صالح، كما يقضي بذلك الدستور (2016) في الفصل 102، رئيسا مؤقتا لمدة 90 يوما، وهي فترة انتقالية يفترض ان تنظم خلالها الانتخابات الرئاسية. وإذا ما كان هذا الاختيار يتميز باحترامه للقانون فهذا لا يمنع الاعتراف بكونه لا يحظى بإجماع جزء مهم من الشعب وجزء أكبر من المعارضة. يمكن اذن أن تكون هناك مخاطر مواجهات مع قوى الأمن. لكن السؤال هنا هل ان هذه المواجهات في صورة ارتفاع حدتها واتساع رقعتها ستدفع الجيش للتدخل مباشرة؟ بطبيعة الحال اخذت القيادة العليا للجيش في حسبانها هذا النوع من السيناريوهات. وهذا ما يفسر تركيز القيادة العليا على الفصلين 7 و8 من الدستور، بالإضافة للفصل 102، اللذين يؤكدان على حق الشعب في ممارسة سيادته.

كما انه ليس من المستبعد أبدا أن تتصرف القيادة العليا ببراغماتية، فهي تعلم ان اعلان حالة الطوارئ (الفصل 107) هو السيناريو الأقل تفضيلا، لأسباب سياسية واستراتيجية، لدى مراكز القرار العليا. بإختصار، تراهن القيادة العليا للجيش على تغيير تدريجي للطبقة السياسية في حين ان الشارع، أو على الأقل جزء كبير منه، يطالب بالتغيير السريع والجذري. يتساءل الكثيرون لماذا لا تتبنى القيادة العليا للجيش، بشكل أكثر صراحة، الضربات الموجهة للأوليغارشيا؟ وهذا ما فعله مؤخرا رئيس أركانها يوم 10 نيسان/افريل في وهران عندما طلب من المواطنين، بشكل صريح، ان ينخرطوا في المعركة ضد الفساد “الآن، كما أشار لذلك، وقد تحرر القضاء من كل اشكال التأثير والقيود”. وهكذا فإن القيادة تطالب الحراك الشعبي بمشاركتها هذه المعركة. وهذا ميدان يمكن أن تلتقي فوقه ارادات الجيش والشعب بشكل ملموس جدا..

حسب رأيكم، هل توجد في الوقت الراهن قوى سياسية لديها المصداقية لقيادة التغيير؟

كما هو الحال بالنسبة للشرعية فإن المصداقية ليست بالضرورة خصلة مكتسبة مسبقا، فهي في اغلب الأحيان تكتسب خلال العمل والحركة، أي بصفة بعدية…وإن كان من غير الممكن القيام بتغيير سياسي في الجزائر من دون الجيش وبشكل أكثر استحالة ضده، وهذا هو الحال في كل مكان، حتى وان لم يعجب الأمر العقول المحدودة التي ترفض رؤية الثقل السياسي الحاسم للمركب العسكري ـــ الصناعي في كل البلدان بما فيها الدول المتقدمة، فمن الصعب أن نحدد بشكل دقيق فاعلين سياسيين آخرين على الأقل حسب تعبيراتهم الحزبية نظرا لطول المدة التي بقي خلالها الحقلان السياسي والإعلامي مغلقين (حتى جاء الحراك الشعبي) أمام التناقضات الأيديولوجية والسياسية التي تعبر أعماق المجتمع.

رغم كل شيء هناك أمر واحد مؤكد: أصبح الشباب والنساء يمثلون القوى التي لا يمكن حصول أي تغيير جدي من دونها. لا يتطلب الأمر إلا بعض الجهد والضغط الاضافي، هذا ما نلاحظه، حتى تتجدد باراديغمات العمل السياسي بشكل جذري. ومن المتوقع ان تشهد الساحة السياسية إعادة ترتيب وفرز في المستقبل القريب. أما في اللحظة الراهنة فهناك تحولات بصدد الحدوث في عدة أحزاب سياسية والتي تحاول، كما هو الحال بالنسبة لحزب علي بن فليس أو حزب عبد العزيز مقري (الاخوان المسلمون)، لتنسجم مع التحولات العميقة التي تعرفها البلاد في الأسابيع الأخيرة..نفس الشيء بالنسبة لحزب “جبهة التحرير الوطني” التي يريد بعض من ينتابهم الحنين لزمن “جزائر بابا” (الجزائر زمن الاستعمار الفرنسي) أن يضعوه في المتحف بشكل متسرع بعض الشيء. في كل الحالات، فإن التحركات الشعبية والمستمرة، لكن الذكية، هي التي ستكوّن خميرة أو سبب ظهور قوى سياسية قادرة على قيادة التغيير.

كيف تحللون مواقف فرنسا والولايات المتحدة من تمظهرات الأزمة في الجزائر؟

حتى وان التقت مصالح هاتين القوتين في عدة مجالات، خاصة فيما يتعلق برغبتهم في التصدي للنفوذ الروسي والصيني، وحتى ان كانت هاتين القوتين لا تريدان أبدا جزائر مستقلة وقوية خاصة عندما تقف إلى جانب الشعوب المقاومة، خصوصا الشعوب العربية-الإسلامية وبشكل أخص الشعب الفلسطيني، مما يفرض عليهما تقاسم المهام على المستوى الاستراتيجي، فإنه من السهل نسبيا أن نفهم ان باريس وواشنطن تدافعان عن خيارات سياسية وثقافية واقتصادية مختلفة. لم تلغِ العولمة، وهذا من حسن حظنا، الفرادة الوطنية وكل مزاياها الجغراسياسية. في اغلب الأحيان، ربما في الغرب خاصة، تأجج العولمة الخصومات والتنافس بين الأمم، ويشمل ذلك الحلفاء أيضا بل وحتى الحلفاء المقربين جدا. وبشكل ملموس أكثر، شاهدنا فرنسا ماكرون تدعم علنا خيار العهدة الخامسة لبوتفليقة ثم خيار تمديد العهدة الرابعة قبل أن تعبر عن أملها في انتقال هادئ حسب العبارة جان ايف لو دريان وزير الخارجية الفرنسي.

يمكن طبعا تفسير هذا الموقف الفرنسي، الذي يثير امتعاض الأغلبية العظمى من الجزائريين نظرا لانحيازه لمعسكر بعينه، برؤية للمصالح على المدى القصير والمدى المتوسط. في الحقيقة كل المؤشرات تجعلنا نعتقد ان التحولات السوسيولوجية والثقافية الكبيرة التي يعيشها المجتمع الجزائري منذ عشرين عاما تتخذ اتجاها معاكسا للتأثير الفرنسي في الجزائر. وليس هذا التوجه الجديد والقوي نتيجة لعوامل خاصة بالجزائر فقط بل انه مرتبط أيضا بتراجع القوة الفرنسية نفسها وكذلك بالصعود السريع لقوى دولية أخرى، كالصين بالطبع، والحضور المتزايد لقوى كألمانيا وإيطاليا وتركيا في قطاعات أكثر فأكثر حساسية. في الواقع تبحث فرنسا عن وضعية جديدة تضمن لها على الأقل الحفاظ على مواقعها المكتسبة وتأمين إمدادات المحروقات خاصة الغاز (وهذه مشاغل تتشارك فيها مع الولايات المتحدة التي لا تريد ان تكون فرنسا تحت رحمة روسيا) وكذلك استقرار منطقة المغرب العربي (وتعتبر الجزائر محورها المركزي) الذي له انعكاسات مباشرة على فرنسا. وفي هذه الوضعية الجديدة سيكون “للمجتمع المدني” الفرنسي، الذي يضم جزءا من المهاجرين الجزائريين، وكذلك الأوساط المثقفة والفنية دور أساسي إلى جانب فرنسا الرسمية حسب ما يقال في قصر الايليزيه..

أما بالنسبة للولايات المتحدة فالمقاربة تبدو مختلفة ومنسجمة مع الفلسفة البراغماتية. فمنذ بداية الحراك لم تكف الولايات المتحدة عن التذكير بدعمها لحرية الشعب الجزائري، وكأنها تريد الظهور كبطلة الديموقراطية والحرية وتستغل بهذا الشكل الديناميكية في الجزائر لتعزز مواقعها في مواجهة الروس والصينيين وحتى الأوروبيين، خاصة الفرنسيين. وفي هذا الإطار تتوفر للولايات المتحدة نقاط قوة وفي نفس الوقت معوقات كبيرة. من بين نقاط القوة نجد جاذبية التطور التقني-الاقتصادي ومزايا الثقافة الأنغلو-ساكسونية. أما بالنسبة للمعوقات فهناك بالطبع السياسة الامبريالية والعدوانية تجاه شعوب الجنوب وخاصة الشعوب العربية-الإسلامية، فلسطين بشكل خاص. ومن المؤكد ان الأعلام الفلسطينية التي حضرت بقوة خلال الحراك الجزائري استرعت انتباه اللوبي الصهيوني المتنفذ في واشنطن. يمكن للجزائر، هذا البلد العربي الغني والمهم جدا بفضل موقعه الذي يتقاطع فيه عدة عوالم وحضارات، ان احسنت لعب اوراقها الرابحة (خاصة تلك التي مكنتها منها سياسة عدم الانحياز) ان تتجاوز الأزمة التي تواجهها حاليا. سيكون باستطاعتها ان تجعل من هذه الأزمة عائقا تستند عليه لكي تنهض وتقفز. كل هذا من أجل ازدهار شعبها وشعوب الأمة وكذلك أفريقيا (التي تعتبر الجزائر احدى قاطراتها) وكما نتمنى كل الشعوب التي تريد العيش بكرامة.

ترجم المقابلة: محمد رامي عبد المولى